ايقونة ثقافة

الفلسفة وقضايا الراهن: “السياسة والأخلاق نموذجا”

ايقونة بريس | م ادريس بنشريف

 لا مراء في أن الفلسفة بنت زمنها، والفيلسوف الحق، من يلتقط القضايا التي تجوب الشوارع محولا إياها إلى إشكالات حقيقية محترسا أشد الحرص من مغبّة السقوط في أشباه القضايا أو الإشكالات الزائفة التي تهلك الفكر والعقل وتكـبّـل طاقته الإبداعية الخلاقة وقدرته على فتح تتسع وتتفاعل مع أشكال الخطاب السائدة تعقيبا وتخصيبا فتسديدا وتقويما،

وفي هذا السياق المفعم بانبعاث الحياة في الجسم الفلسفي واستئناف القول الفلسفي بلسان جمعية مدرسي الفلسفة بالمغرب وفروعها عبر ربوع الوطن.

الفلسفة وقضايا الراهن: “السياسة والأخلاق نموذجا”، هو عنوان لندوة فكرية نظمتها الجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة فرع الرحامنة، والتي كانت بمثابة فرصة، لبسط إشكالية المجال العملي لا سيما وأن تشكل ملامح الحداثة السياسية الأولى مع نيكولا ماكيافيل واستئناف تشكلها مع طوماس هوبز و باروخسبينوزا وجون لوك وجان جاك روسو وتأصيلها في بعدها النقدي مع إيمانويل كانط، ومآلات هذا التشكل في اللحظة المعاصرة مع نيتشه وماركس و راولز، قد صير التساؤل عن المنطق الخاص بالسياسي وذاك المرتبط بالأخلاقي مسألة في غاية الأهمية. إما على أساس مقولات الأنثروبولوجيا عامة أو على أساس الأنطولوجيا الفلسفية، فبقدر ما كان السياسي شرطا تاريخيا لتحقق الأخلاقي بقدر ما كان الأخلاقي غاية قصوى للسياسي، لأجل هذا جعل أرسطو مبحث الأخلاق جزءا من مبحث السياسة.

وهذا بالذات ما ستسعى الحداثة السياسية عبر لحظاتها الأساسية إلى تقصيه وتقليب أوجهه أيما تقليب، بين الاتصال والانفصال، بين التكامل والتنافر، بين الاستمرارية والقطيعة، الاستقلالية والتبعية، بين الممكن ولما ينبغي أن يكون تنبسط إشكالات السياسي والأخلاقي في حوار جدلي يختلف من لحظة لأخرى ومن مجال تداولي لآخر.
الأستاذ أحمد ركني رئيس الفرع المحلي ومسير الندوة قدم كلمة ترحيبية بالضيوف من أساتذة وفاعلين جمعويين وتربويين، كما قدم الأستاذ م. إدريس بنشريف ورقة تأطيرية حول سياق تنظيم هذا اللقاء ورهانات الجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة في سبيل استئناف القول الفلسفي جهويا ووطنيا،،،

وترسيخ أساليب العمل المشترك البناء والهادف قصد التماشي مع روح العصر والتجاوب مع مقتضيات هذه اللحظة التاريخية المفصلية من تاريخ جمعية ظلت شامخة لما ينيف عن خمسة عقود أبلى فيها الجيل الأول من المدرسين البلاء الحسن وها هي الأجيال الجديدة تتلمس لنفسها الطريق من أجل خلق التربة الجيدة لإحياء الخطاب الفلسفي الذي دشنه فلاسفة المغرب فكان بحق جزءا لا يتجزأ من هوية الإنسان المغاربي وما تتحلى به هذه الأخيرة من مظاهر اليقظة العقلانية والوعي التاريخي المسلح بالفكر النقدي، وغيرة منهما على الدرس الفلسفي وإنعاشا لربيع الفلسفة بالمغرب، لبى الأستاذين الجليلين: الأستاذ والمؤطر التربوي عبد السلام العسري والأستاذ والمؤطر التربوي رشيد العلوي نداء المحبة والصداقة في حضرة الصوفيا .


افتتح الأستاذ “عبد السلام العسري مداخلته بالتماس التركيز، خصوصا وأن إشكال الفلسفي والأخلاقي يقتضي مقاربة تاريخية، تتحلى باليقظة وتجنب تلك القراءات الانفعالية والمتسرعة التي من شأنها أن توقعنا في الإفتراء عن الفلاسفة وتنميط القول الفلسفي. هكذا ميز بين ثلاث محطات أساس من تاريخ الفلسفة ،لكل منها شروط وسياقات اختصت بها ، وطبعتها بميسم خاص على مستوى طبيعة الإشكالات ورهاناتها، ومسألة التأسيس والتبعية والاستقلالية .

اللحظة اليونانية: ممثلة في فلسفتي أفلاطون وأرسطو، وتمحورت حول سؤال مركزي هو كيف ينبغي أن يعيش الإنسان؟ ومنه كان لزاما استحضار البعد الأخلاقي كمجال يستهدف سلوك الفرد والسياسة كمجال يستهدف المدينة ككل، فكلاهما يتغيى الخير الأسمى كموضوع رئيسي، فالخير يسود المدينة من المنظور الأفلاطوني عندما تخضع للنظام الثلاثي التراتبي حيث الفيلسوف الملك في قمة الهرم، غير أن هناك خطر يتهدد المدينة فعالم السياسة لا يمارس السياسة بتعبير سقراط لأنه لا مكان لمحب الحقيقة بين الخطباء وأصحاب المصالح فهؤلاء يسيطرون ويدفعون بالمدينة نحو البؤس ،من هذا المنطلق سوف يخرج أرسطو الجدل من دائرة العلم فأينما وجد الجدل انعدم العلم ،فالسياسة علم الخير العام ،والهدف من قيام الدولة أخلاقي ،كرهان على دولة الصداقة ودولة الخير العام. إن اليونان بشكل عام اعتبروا ممارسة السياسة عمل أخلاقي وهي ليست علما فقهيا مستقلا بذاته.


اللحظة الماكيافيلية: تزامنت مع عصر  النهضة والإصلاح الديني مما صير سؤال العلاقة بين السياسي والأخلاقي أكثر تعقيدا ،نبه الأستاذ إلى أن ماكيافيل عادة ما يختزل في عبارات نمطية، تختزل رؤية الرجل في شعار الغاية تبرر الوسيلة، وهذا النوع من القراءة أسماه الأستاذ بالقراءة الإنفعالية وبعد عرض مقتطفات من الأمير وفن الحرب ،اعتبر أن التقنية السياسية لا تحمل دلالة أخلاقية في ذاتها ،ووسائلها حيادية، والأخلاق وسيلة تقنية لتأسيس الجمهورية والحاكم إذا لم يتعامل معها كوسائل تقنية سيكون الإخفاق والفشل مآله لا محالة فالقيم السياسية هي التي تتحكم وتحكم القيم الأخلاقية.


اللحظة الحديثة: اختار الأستاذ العسري علمين من الفلسفة الألمانية وهما كانط وهيجل، فمع كانط أصبح الفعل السياسي يجد عمقه في الواجب الأخلاقي، وما خلفته الثورة الفرنسية من تساؤلات بالنسبة لكانط كان أبرزها ما التنوير؟ والحرية في الاستعمال العمومي للعقل والاستعمال الخصوصي، فالأول مجاله السياسة والثاني مجاله الأخلاق ولا يمكن تصور فعل أخلاقي بدون حرية فطاعة الواجب أخلاقي لا يتناقض والحرية. أما هيجل وانطلاقا من جدلية السيادة والعبودية، كرغبة في الاعتراف بقيمة وآدمية الإنسان، إلا أنه اعتراف ناقص لا يكتمل إلا بقيام دولة الحق والقانون كتجسيد للفكرة المطلقة ومجال لتحقق القيم الأخلاقية  والاعتراف المتبادل والشامل بكرامة وإنسانية كل إنسان .


مداخلة الأستاذ والباحث “رشيد العلوي” انطلقت من حيث توقفت المداخلة الأولى وهي اللحظة المعاصرة، منبهة إلى هابرماس وجون راولز وحنة أرندت ،ما توفره من إطار نظري يظل أجوفا إذا لم نحاول مقاربة الأخلاقي والسياسي في الخطاب المغربي ،من خلال السؤال التالي:
هل البنية الأخلاقية للمغاربة يمكنها أن تساير مجموع التحولات التي يشهدها العالم؟

كإجابة عن هذا السؤال اعتبر الأستاذ العلوي أن الخطاب المغربي يتسم بالتعدد فمصادره مختلفة وغير متجانسة، تعبر عن رؤى العالم .فهناك الرؤية الدينية والرؤية العلمانية .والخطاب السائد بالمغرب هو خطاب مزدوج :خطاب ديني وخطاب علماني ،يمكن أن يكون مصدر قوة كما يمكن أن يشكلا مصدر خطر.
هل يستطيع القانون بما هو مقاربة معيارية أن يجد حلا للتعارض بين القيم الأخلاقية مع المصالح السياسية؟
سأطرح الفرضيات التالية بخصوص الخطاب الديني، فقد يكون الخطاب الديني:

  • – مصدر قوة لأنه قد يوحد وجهات النظر حول العالم ويربط أفراد المجتمع بالحياة الأخلاقية.
  • – مصدر ضعف أو خطر لأنه ينظر للفكر النقدي بوصفه خيانة وتهديدا.
  • – مصدر إلهام يشرع رؤية للحياة الخيرة

وبالنسبة للخطاب العلماني أطرح ثلاث فرضيات، قد يكون الخطاب العلماني :

  • – مصدر قوة لأنه يبني وجهات نظر حول العالم ولا يستثني البعد الأخلاقي في الحياة.

  • – مصدر ضعف أو خطر لأنه ينظر للفكر الديني باعتباره فكرا ميتافيزيقيا.

  • – مصدر إلهام لأنه يشرع لرؤية خيرة للحياة ويضمن سلامة الناس .

انطلق من أطروحة مفادها: إن الخطاب الأخلاقي في الفلسفة السياسية المعاصرة عند هابرماس هو أساس الإندماج الإجتماعي لأنه الخطاب المناسب للمجتمعات المتنوعة ثقافيا إلا أن هذا الخطاب يظل نسبيا لا لعدم صحة القواعد العامة والشمولية وإنما لأن البشر فيهم إعوجاج في سلوكهم وممارستهم التي تحظى فيها الذاتية والفردية بالجزء الأكبر. فقد تكون القواعد صحيحة لكن قد تنتج عنها سلوكات خاطئة وغير خيرة.لذا يتوجب أن يترافق الإطار الأخلاقي بخطاب قانوني وسياسي عقلاني. وما يعنيه ذلك من تلازم حقيقي بين السياسة والقانون والأخلاق.


هناك تمييز بين الدولة والسياسة: هي تلك السلطة المشكلة من نظام إداري وكيان بيروقراطي يعمل على صنع القرار بواسطة المؤسسات السياسية الرسمية والسياسة نوعان سياسة شرعية وسياسة غير شرعية.هذه الازدواجية في فهم السياسة هنا يمكن أن نميز بين الدائرة السياسة الخاصة والدائرة غير الرسمية السياسة هي الحرية التي تنبع في آن واحد من ذاتية الفرد وسيادة الشعب، فالقانون عند راولز له جانبان جانب معياري شرعي وجانب وقائعي إجرائي وله ثلاث مبادئ:


ـ الشرعية: لا يكون القانون شرعيا إلا إذا كان له مغزى لكنها ليست شرطا كافيا لصحته
ـ الواقعية: أن يصدر عن هيئة معترف بها وأن يحظى بالإحترام والتقدير
ـ القابلية للتطبيق: أن يسمح بفرضه على الآخرين وأن يخضع له الجميع.


كما حاول فحص هذه الأطروحة التي تنص على التلازم بين السياسة والأخلاق والقانون في الحياة المعاصرة .أي أن دولة الحق والقانون يمكنها أن تضع حدا للشرخ القائم بين السياسة والأخلاق .
ليتناول مثال الكذب السياسي في هذا السياق لعله يبرز طبيعة الإشكالية المطروحة، أي الكذب الذي صار حقا سياسيا، إن تفاقم الكذب السياسي الذي صار تبريرا/ حقيقة مخادعة / إشاعة موجهة/ تحايلا .

هذا يتم تبريره باسم المصلحة العامة، والذي يكذب سياسيا باسم المصلحة العامة أو مراعاة مشاعر الشعب وغيرها من التبريرات التي توجهها نوايا إخفاء الحقيقة
هل يستطيع شخص مُوَالِ لزعيم ما الطعن في الزعيم لأنه شخص سيء ولا أخلاقي؟
الزعيم السياسي  يحاط بهالة عند مريده، وترسم حوله صورة المعصوم من الخطأ ولا يمكن أن يقبل المنطوي تحت لواءه ولو كان سيئا ولا أخلاقيا وهو شخص خير ولو تصرف على نحو شرير .
لنفترض أنك تعرفت على شخص متخلق يتصف بسمات ولم يسبق لك أن وجدتها في أقرب الناس إليك فقررت أن تجعل منه شخصا حميما فماذا لو أخبروك يوما أن هذا الشخص جلاد قد أباد الناس إبادة جماعية ماذا لو اكتشفت أن هذا الشخص ليس كما كنت تعتقد شخص ،بل شخص سيء وشرير ولا أخلاقي .
لنجد الإجابة عن هذه الوضعية في تحليل أرندتلإخمان هو الشخص الذي أتقن المبدأ الأخلاقي الكانطي هو شخص يقوم بمهمته قانونيا دون الشعور بالذنب أو يملي عليه ضميره الأخلاقي عدم القيام بذلك .
هكذا يمكن أن يكون القانون أداة لارتكاب الجرائم /أداة لاختراق القواعد الأخلاقية القانون وحده غير كاف لجعل سلوكات الناس أخلاقية قانون السير نموذجا وهذه مناسبة لإعادة النظر في المقاربة القانونية ،فهل باستطاعة السياسة أن تضمن ذلك؟سلوكا أخلاقيا خيرا للمواطن ؟
في الخطاب المغربي نسجل ازدواجية لدى الخطابين معا العلماني و الديني ، وما يجمع الفاعلين من الطرفين هو المصلحة الذاتية فداخل الخطاب الديني ستجد أشخاصا يرتكزون على الخطاب العلماني والعكس صحيح، النقاش يحتاج لإعادة النظر.

نستبشع بعض القضايا ونقبل قضايا أبشع ما نتلمسه أن منظومتنا السياسية والأخلاقية تتعرض للانهيار، بفعل الانفتاح السياسي في عصر العولمة ومجتمع المعرفة لأن السلطة صارت كونية وتوسعت بينما انحبست السياسة في الدولة وصارت ضيقة أكثر وهذا التناقض بين السلطة والسياسة قد يفضي إلى نتائج يصعب على المنظومتين السياسية والأخلاقية والخطابين معا الإجابة عنها .
بهذا نقدم شكرنا الخاص كفرع محلي لكل من ساهم في إنجاح هذا النشاط من قريب أو بعيد ولكل الحاضرين الذين تحمّلوا مشاق السفر في سبيل إنجاح هذه المحطة سواء للأساتذة من قلعة السراغنة أو مراكش أو مدن أخرى./

محمد المسير {أقلالوش}

رئيس التحرير - كاتب رأي

صحفي مهني وناشط حقوقي، متخصص في القضايا السياسية والاجتماعية. حاصل على شهادة في الحقوق ودبلوم في القانون الخاص. ساهم في عدة منصات إعلامية وشارك في ندوات دولية مع منظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان. التفاصيل في الشفحة الشخصية :

⌈ https://bit.ly/3UntScc ⌉