رواد وعمالقة مسلمين

سلسلة صحفية: روْاد وعمالقة مُسلمون – الحلقة السابعة والثامنة- الإمام محمد عبده

مقدمة عامة للحلقات

“…حفل التاريخ الإسلامي بأسمائهم بعد أن ارتقوْا قمْم العلوم وتوجهوا بها لخدمة الإسلام والمسلمين، آثروا حياة الثورة والنضال على حياة الترف والبذخ والرخاء …،حملوا فكرهم وعلمهم سلاحاً للدفاع عن القضايا الوطنية للأمة، فكتبوا وأبدعوا فكراً وديناً وشعراً وابتعدوا عن خانة الغاوُون فلا هم في كل واد يهيمون ولا يقولون مال يفعلون، عاشوا احراراً مرفوعي الرأس دون أن تسمح اقلامهم أن تكتب نفاقا وتزلفا لحاكم أو سلطان، ودون أن يرفع سيفهم إلا نصرة للحق والمُستضعفين أحسنوا في تفسير الحرّية الغربية وقابلوها استئناساً بالليبرالية الشائعة في الغرب والدائرة على كل لسان حينما رأوا فيها العدل والإنصاف…،اوضحوا أن السير في طريق التنمية والتطور واكتساب المعرفة يقتضي بالضرورة وجود دعامات الحرّية والعدل والمساواة التي تجد دعاماتها من الشريعة الإسلامية حيث المنهج والدستور الكامل والشامل، حيث مصطفى كامل وأنور الجندي والشيخ علي الغاياتي والخطابي والمراغي والنديم وياسين وعلال الفاسي والبنا وإبن تاشفين وأبو الحسن الندوي وغيرهم من رجالات الفكر العربي والاسلامي، إنهم عمالقة الفكر والتنوير ورواد الأصالة الإسلامية، ،…إنهم روْاد وعمالقة مسلمون “.

الإمام محمد عبده…. رائد وعبقري الاصلاح والتعليم باعث الدولة المدنية في تاريخ مصر ومُجدد النهضة والتنوير والتجديد الفكري والديني

رواد وعمالقة مسلمين

الإمام محمد عبده

….كاد أن ينتهي مصير الغلام كما آل إليه مصير بقية أشقائه حيث فِلاحة الأرض وزراعها…..، وكاد أن يفقد الفك“….كاد أن ينتهي مصير الغلام كما آل إليه مصير بقية أشقائه حيث فِلاحة الأرض وزراعها…..، وكاد أن يفقد الفكر العربي أحد زعماء الاصلاح وقائدا من قادة التنوير العظام الذين لا يزالون يمثلون نبعاً لا ينبض معينه ….، وكِدنا أن نفقد معه ثروة بشرية هائلة لولا أن شهد الأب الذي هزمه الفقر بأن لديه ما يبعث على الاعتقاد بأن حرمان صغيره من العلم سيكون جريمة في حق هذا العالِم الصغير..، ساهم بعلمه ووعيه واجتهاده في تحرير العقل العربي من الجمود الذي اصابه لعدّة قرون، شارك في الحفاظ على وعي الأمة وقيادتها نحو التحرّر وبعث الوطنية وإحياء الإجتهاد الفقهي لمواكبة التطوراتر العربي أحد زعماء الاصلاح وقائدا من قادة التنوير العظام الذين لا يزالون يمثلون نبعاً لا ينبض معينه ….، وكِدنا أن نفقد معه ثروة بشرية هائلة لولا أن شهد الأب الذي هزمه الفقر بأن لديه ما يبعث على الاعتقاد بأن حرمان صغيره من العلم سيكون جريمة في حق هذا العالِم الصغير..، ساهم بعلمه ووعيه واجتهاده في تحرير العقل العربي من الجمود الذي اصابه لعدّة قرون، شارك في الحفاظ على وعي الأمة وقيادتها نحو التحرّر وبعث الوطنية وإحياء الإجتهاد الفقهي لمواكبة التطورات السريعة في العلم ومسايرة حركة المجتمع وتطوره في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية…..

وصية الأفغاني

ففي صباح يوم الثلاثاء السادس والعشرين من اغسطس 1879 نقل السيد جمال الدين الأفغاني إلى السويس منفيا خارج البلاد بعد أن أشعل الأرض بالثورة والتمرّد على الاستبداد والفساد، وبينما يلْتفُ حوله كل تلاميذه ومريديه أذ بالأفغاني وقد أخذ يُدلي بوصيته التي كان منها أن محمد عبده هو الأمين على الدين بعد أن حباه الله بعقل كفيل بإحياء العقل الإسلامي واستنهاضه من سباته العميق،تلك الوصية التي لم تكن تمنيات طيبة أراد أن يقولها فقط في تلك اللحظات الحزينة التي لن يرى مصر بعدها أبدا بقدر ما كانت كلماته صدى لحقيقة واضحة وناصعة الوضوح للمهمة التي اوكلت إلى هذا العقل النابه حيث تجديد الفكر الديني وإزاحة ستائر الظلام التي اسدلتها عليه عهود القهر والظلم والتخلف بعد أن وصف بنفسه الرجل مرارا وتكرارا قائلا: إنه اعتدال السياسة وثورة الفكر الديني وذو العقل الكامل الشامل الذي سيقود البلاد والعباد الى برّ الامان وسُؤدد العيش”،.

عصر الفقر والضعفاء

كان والده حسن خير الله (الذي هزمه الفقر يقاسي من ويلات العوز والحاجة في عصر لا يرحم الفقراء والضعفاء) قد أخذ يشعر بأن لديه ما يبعث على الاعتقاد بأن حرمان صغيره من العلم جريمة لا تغتفر في حقه وحق نفسه بعد أن اصبح غير قادر على تجاهل ذكاء هذا الغلام الذي يشهد كل من يراه بأنه سيكون نابغة عصره وهو لم يتجاوز بعد الخامسة ربيعا( ولد الإمام محمد بن عبده بن حسين خير الله سنة 1849 بقرية محلّة نصر بمركز شبراخيت بمحافظة البحيرة المصرية).

يروي محمد عمارة ضمن كتابه (الإمام محمد عبده: مجدّد الدنيا بتجديد الدين) واصفا تلك المرحلة بالقول “….كانت البداية الحقيقية للإمام محمد عبده الذي عدّ من أكبر المفكرين والمصلحين في التاريخ العربي والإسلامي بداية يملأها البؤس والشقاء حيث والده الفلاح الذي بالكاد يجد ما يسدّ رمق جوعه اليومي بعد أن دفع بأولاده إلى الأرض لحرثها وزراعتها دون أن يفكر حتى في تعليمهم حيث امكانياته التي لا تذكر، يجد نفسه مضطرا في احيان كثيرة للاستدانة لكي يسدّ به جوع أولاده، لكنه وبعد تفكير عميق اهتدى الأب إلى قرار لم يتخذه من قبل بل لم يحاول التفكير به قط، قرار يقضي بأن يُضحّي بكل شيء ويتحمّل الصعاب حتى ينتزع الصغير محمد (بعد أن بدأت تظهر رجاحة عقله للجميع ) من براثن الجهل ويضيء له جنبات حياته بنور العلم.

كان الأب حسن خير الله قد بدأ ومنذ ولادة هذا الصغير يشعر بأن البركة قد أخذت تملأ البيت وشهد الجميع بأن هناك شيئا ما قد تغيّر داخل المنزل، إنه قدوم الصغير مبعث السعادة والفرحة التي اخذت الأسرة تشعر بأن الله قد قدّم لها هدية عظيمة، وأخذ بدفعه سريعا إلى شيخ أحد الكتّاب بمحلّة نصر مسقط رأسه حتى يعدّ لما هو أكبر بكثير بعد أن شبّ الصغير على الطوق وبدأت معالم بلوغه ونبوغته في الظهور وأخذ ذكاءه الحاد يظهر بجلاء واضح حيث ميله للتعليم الذي بدا فطريا لا يقف دونه أيه حدود أو حواجز .

في أحضان الأزهر

حاول الغلام محمد عبده أن يستوعب دروس شيخه الفقيه المتواضعة بعد أن أضحى يشكل له دور القائد الملهم والعالم البصير والمثقف المستنير، ولم يجد الأب بُدّا (نظرا لما يبلغه به بعض المشايخ) أمام قدرات صغيره إلا أن يسارع بإرساله إلى الجامع الأحمدي بطنطا التي مضى فيه ثلاثة سنوات قبل أن يتم نقله إلى كنفات الجامع الأزهر بدايات العام 1866 الذي تفتحت فيه مدارك الصغير الشاب وأخذ يهزّ العلم وجدانه ويزلزّل كل كيانه قبل أن يتخرج منه حاملا الشهادة العالمية في علوم الدين أواسط العام 1877.

فيلسوف الاسلام

كانت طريقة التعليم في الجامع الأزهر لا تصبّ في خانة اعجاب الشاب محمد عبده الذي وصل إليه للتو رغم ادراكه فيه بقيمة العلم والتعليم بعد أن أخذ يبحث عن مخرج لهذا المأزق والتفكير مليّا في حلّ مشكلته بنفسه، واهتدى إلى أنه ليس هناك مفرّ إلا تلقي التعليم بنفسه ولنفسه مُبتدعيا اسلوب المطالعة والتحصيل الذي أخذ معه يستلذّ بما يقرأ، مستعذّبا العلم والفكر والتاريخ حتى بلغ مدى طويلا يرتشف فيه العلم من بحوره الواسعة مُحرزا منها جانبا كبيرا كانت ذخيرته وعدّته بعد أن وسّع من رزق والده الذي كان يقول مع نفسه: لماذا لا أرعى الفتى ما دام مجتهدا ويعدّ بالكثير بعد أن استقرت نفسيته وواصل اغترافه من العلم  بحورا”، وفي تلك الأثناء (دراسته في الأزهر) كان محمد عبده يشارك ويعمل في عدة اعمال كالتدريس والترجمة حتى وفد إلى مصر المفكر العظيم وفيلسوف الإسلام جمال الدين الأفغاني وتولّى هذا الوافد العملاق تدريس المنطق والفلسفة التي انخرط محمد عبده في سلك تلامذته الذين كانوا يضمون نوابغ المصريين مظهرا أمانته وقدراته العظيمة وأفكاره الاسلامية الرائعة وإحساسه الوطني المرتفع حتى اصبح محمد عبده من اقرب تلامذته وألصقهم به وأكثرهم قدّرة على مباراته حتى قال فيه الأفغاني يوم رحيله إلى الأستانة : لقد تركت فيكم الشيخ محمد عبده وكفى به لمصر عالما”.

مسيرة العلم والثورة

بدت الروح المتمردة لمحمد عبده تظهر للجميع ومنذ السنوات الأولى من حياته بعد أن رفض عقم اساليب التدريس وهو لم يتجاوز بعد الثالثة عشر ربيعا قبل أن يتلقف دروس جمال الدين الإفغاني إلى الدعوة والإصلاح والارتكان الى العقل في فهم الدين حتى غدا محمد عبده زاهدا في الحياة ذوو شجاعة مطلقة  في إبداء الرأي وجرأة للتعبير على اصحاب المناصب والمقامات حتى جرّت عليه (الجرأة) العديد من المضايقات حيث طرده من استاذيته في دار العلوم وخلت يده من النقود ليجد نفسه في أحد المقاهي الشعبية التي أخذ صاحبها ينفق عليه من ماله الخاص، وفي هذا يروي محمد عمارة (محمد عبده مجدّد الدنيا بتجديد الدين) بالقول “…لم تكن حادثة طرده من كلية دار العلوم سوى أحد مظاهر تمرّده على تلك التقاليد السائدة في ذلك الصرح العلمي الذي أريد به تطوير التعليم في مصر، فقد رفض محمد عبده أن يعلم طلابه المواد التقليدية بل درّس لهم كتبا في التاريخ تمكنه من الحديث عن الثورة والانقلاب والتغيير فقرأ كتاب تاريخ المدن الأوروبية للسياسي الفرنسي الكبير (جيرو) كما قرأ لتلاميذه مقدمة إبن خلدون طليعة الفكر الاجتماعي الحديث..، كانت نفس محمد عبده تفور بالغضب على كل ما يجري في بلاده من أمور السياسة، ففي هذه الفترة أنشيء صندوق الدين والمراقبة الثنائية الانجليزية/الفرنسية على مالية مصر، ورأى بعينيه كيف يتوغل الحكم الأجنبي في بلاده مقوضا سلطانها مُبدّدا هيبتها فانخرط في النشاط السياسي المناوئ لاستبداد الخديوي اسماعيل بالسلطة وللتدخل الاجنبي، ذلك النشاط الذي استخدم فيه التنظيم الفكري والسياسي  كالحزب الوطني الحرّ الذي أسّسه جمال الدين الافغاني وبدأ عمله سرّيا ورفع شعار مصر للمصريين( لحزب الذي ضم اغلب القيادات التي اسهمت في تفجير الثورة العرابية 1881…)، لكن الأثر الكبير في حياته تمثل في نفي الأفغاني وما خلفه ذلك من آثار كبرى على نفسيته وعمله النضالي بعد أن عُزل من وظائف التدريس وحُدّدت اقامته بقريته (محلّة مصر) قرابة العام حتى استصدر رياض باشا رئيس الوزراء عفوا من الخديوي باشا وعينه محرّرا في ال جريدة الوقائع المصرية قبل أن يتولى رئاسة تحريرها بعد ذلك ببضعة أشهر

هوجة عرابي

بعد خروج جمال الدين الأفغاني من مصر باتجاه الأستانة بدأ محمد عبده رحلة الجهاد والكفاح ضد الإستبداد والفساد في البلاد في شخص الخديوي توفيق وأخذ يكتب مقالاته الصحفية بجرأة وصراحة عظيمة بعد أن تقلّد منصب رئاسة التحرير بجريدة الوقائع المصرية حتى قامت ثورة الزعيم أحمد عرابي يوم التاسع من سبتمبر 1881 التي سارع عبده للانضمام إليها والانخراط في صفوفها لتحقيق المطالب الشرعية للشعب المصري وعزل المتآمرين على قضايا الأمة الوطنية وعلى رأسهم رياض باشا رئيس مجلس النظّار حينذاك.

كان أول ظهور حقيقي لأحمد عرابي على الساحة المصرية حين تقدّم رفقة مجموعة من رفاقه بطلب إلى الملك الخديوي توفيق يقضي بترقية الضباط المصريين وعزل رياض باشا رئيس مجلس النظّار المجابه لآمال وتطلّعات الشعب المصري، وهي مطالب لم يقبلها الخديوي توفيق الذي بدأ بالتخطيط للقبض على أحمد عرابي ورفاقه بتهمة التآمر على اسقاط النظام لتنزل الجماهير إلى الشوارع  وتخوض أول ثورة في تاريخ مصر الحديث ضد الخديوي باشا يوم 9 سبتمبر 1881 بقيادة عرابي نفسه بعد أن تحوّلت إلى  ثورة وطنية وأطلق عليها هوجة عرابي( كان من أسبابها المباشرة رفض الملك عزل رياض باشا وترقية الضباط المصرين وسوء الأحوال الاقتصادية ورغبة انجلترا وفرنسا في إدارة شؤون الخزانة العامة المصرية باعتبارهما من أكبر الدائنين لها).

مرحلة التمرّد والنفي

بدأ محمد عبده يشترك اشتراكا فعليا في الثورة العرابية بآرائه ودعواته الصريحة (عبر مقالات نشرها على صفحات الجرائد الوطنية) إلى اصلاح التعليم ومنح الفرصة لجموع الشعب مطالبا عرابي نفسه بالتركيز على التربية والتعليم قبل التركيز على الثورة التي تم توجيه افكار محمد عبده فيها نحو تحديد الفكر الاسلامي والعربي من القيود والتقاليد وعلى رأسها الدين الذي اعتبره من ضمن موازين العقل البشري،إضافة إلى اقامة العدالة الاجتماعية جاهرا بدعواته لا يخشى بطش الاستبدادية وعنفوانها وجبروتها مهاجما في ذلك مشايخ الأزهر ومُحمّلا إياهم مسؤولية تراجع الدين الحنيف وانتشار الأفكار الهدّامة والمتطرفة  التي تبتعد عن روح الدين، حاملا إلى جانب لواء الاصلاح السياسي لواء الإصلاح الديني ذلك اللواء الذي سقط سريعا من يده بعد احتلال الإنجليز لمصر 11 يوليو 1982 وتعاونهم مع الخديوي توفيق في القضاء عليه بعد أن تحوّل (حسب وجهة نظرهم) من قائد ثوري وابتعد عن دوره كمصلح ديني وسياسي، خاصة بعد أن أفتى بعزل الخديوي توفيق وطرد المحّتل الانجليزي الغاصب من مصر ليتم القبض عليه ونفيه خارج البلاد باتجاه العاصمة اللبنانية بيروت التي مكث فيها لسنتين تقريبا قبل أن يتجه إلى باريس للقاء معلّمه جمال الدين الأفغاني الذي أسس رفقته جريدة “العروة الوثقى” التي اضحت لسان حال المصلحين والثوريين والمدافعين عن الوطن العربي المحتل بعد أن اطلع هناك على الحداثة والمدنية وتعلم اللغة الفرنسية وقرأ المزيد من كتب الفلسفة والقانون ليعود إلى مصر مجدّدا مع بدايات العام 1889، وفي هذا  يروي أحمد أمين (زعماء الإصلاح) مجريات تلك الفترة بالقول “…  بعد اغلاق العروة الوثقى وفشل الثورة العرابية سكن الشيخ محمد عبده ببيروت فانقطع عنه مدد الثورة والهياج السياسي الذي كان يمده به السيد جمال الدين الأفغاني، وعاد إلى طبيعته حيث ميله إلى الإصلاح العقلي والديني وتجنّب السياسة حتى كره (وفي إطار غضبه ونفوره من الثورة) السياسة والسياسيين مبديا أسفه لانهماك نبهاء الأمة في السياسة وإهمالهم أمر التربية، بل أنه انتقد استاذه جمال الدين الافغاني نفسه قائلا : السيد جمال الدين رجل عالم واعرف الناس بالإسلام وحالة المسلمين وكان قادرا على النفع العظيم بالإفادة والتعليم ولكنه وجّه كل عنايته إلى السياسية فضاع استعداده هباء الرياح ….

التجديد الديني

” كان اليأس قد أخذ يتسرب إلى نفسيّة محمد عبده في بلاد المنفى بيروت،وحتى يعود إلى طبيعته انطلق في تأسيس جمعية سرّية للتقريب بين الأديان السماوية بعد أن أتم ترجمته لرسالة الأفغاني (الرّد على الدهريين) ووضع اللوائح الداعية إلى اصلاح التعليم العثماني شارعا في تحقيق كنوز التراث العربي الإسلامي من خلال نظريته التفسيرية التي اخذت تقوم على قاعدتين اساسيتين هما نقد الجاهلية السائدة في فهم القرآن والدين بصفة عامة وعدم الأخذ تقليدا بتفاسير القرآن الشابقة، وتفسير القرآن الكريم بما يخدم ويلائم ارتقاء المجتمع وكماله بمقتضى حالة العصر، حتى تمكن (بتحقيق تلك القاعدتين) من وضع المبادئ الأساسية لتطوّر المجتمع العربي الاسلامي وفتح الطريق واسعا أمام تقدمه وازدهاره وتطوره، وفي هذا يجيب محمد عبده عن السؤال الذي شغل الفكر العربي طوال القرن التاسع عشر ومازال: ما الوسيلة الصحيحة لتجاوز الجمود وتحقيق النهضة؟ بالقول : لا يمكن أن ينهض النهوض اللائق بدينه إلا بدءا من استعداده للدخول للآفاق اللامحدودة من العلم والعمل التي شرعها له الإسلام ولا يقدر على الشروع في هذا الاستعداد إلا بدءا من العودة إلى اصول دينه واعني هنا نبذ التقليد والنظر العقلي إلى الاجتهاد والتجديد،كل ذلك إضافة إلى عامل التربية السليمة التي من شأنها تغيّير النفوس بالفضائل الإنسانية والشرعية الكفيلة بتطور المجتمع وتقويم اعوجاجه..”، وبقي محمد عبده مخلصا لهذا النسق الفكري الذي قدمه رافعا ومدافعا عنه في كل اصلاحاته للمؤسسات التربوية والتعليمية والدينية حتى اللحظات الاخيرة من حياته دون أن يدلف لعقله دوافع الثورة ورياح الفكر الاسلامي التي بقيت رياحا عاتية ازاحت من أمامه ركام عهود طويلة من الجمود والتحجر.

نهاية مفتي الديار المصرية

ما أن عاد محمد عبده إلى مصر بعد صدور العفو عنه من طرف الخديوي توفيق وبوساطة تلميذه النجيب  سعد زغلول حتى عاد إلى مزاولة قلمه الجارح للسلطة في مصر (رغم اشتراط الخديوي التوقف عن العمل السياسي) ليتوقف عندها سريعا بعد أن تم تعينه قاضيا بمحكمة بنها ثم عابدين ثم مستشارا بمحكمة الإستئناف بالقاهرة وعضوا بمجلس إدارة الأزهر حتى وصل إلى تقلّد منصب المفتي العام للديار المصرية في العام 1899 وظلّ بالمنصب حتى لقاء ربه في الحادي عشر من يوليو عام 1905 بمدينة الاسكندرية عن عمره يناهز سبع وخمسين عاما  متأثرا (اصيب بمرض السرطان) بخيبة أمله في اصلاح الأزهر والمقاومة العنيفة التي واجهها من جانب الانجليز والخديوي والمشايخ غير الشرفاء المناوئين لدعواته الاسلامية بعد أن كتب أبياته الشعرية التي يقول فيها:

ولست أبالي أن يقال محمد     أبلى أم اكتظّت عليه المآثم

ولكنه دين أردت صلاحه       حاذر أن تقضي عليه العمائم

أبيات دخل من خلالها الإمام محمد عبده إبن الفلّاح الذي اصبح زعيما للنهضة الإسلامية الحديثة التي لم تزهق أرواحا ولم ترق دماءا بقدر ما بنيت على الفكر والهداية والاستنارة وإصلاح التعليم وتنقية الدين من شوائبه التي دخلت عليه،محاولاً في ذلك التوفيق بين الإسلام والمدنية الحاضرة بالتحرّرمن القيود السخيفة والفكر المتخلف والتطرّف الديني والتفتت الفكري الذي يهدم أبواب الاجتهاد، ليرّحل بعد أن رثاه حافظ إبراهيم بأبياته الشعرية التي منها :

سَلامٌ عَلى الإِسلامِ بَعدَ مُحَمَّدٍ ***  سَلامٌ عَلى أَيّامِهِ النَضِراتِ

عَلى الدينِ وَالدُنيا عَلى العِلمِ وَالحِجا ***  عَلى البِرِّ وَالتَقوى عَلى الحَسَناتِ

لَقَد جَهِلوا قَدرَ الإِمامِ فَأَودَعوا      ***   تَجاليدَهُ في موحِشٍ بِفَلاةِ

مَدَدنا إلى الأَعلامِ بَعدَكَ راحَنا      ***   فَرُدَّت إلى أَعطافِنا صَفِراتِ

معاد صوالحة

معاد صوالحة

 

Print Friendly, PDF & Email
Author profile

صحفي مهني وناشط حقوقي، متخصص في القضايا السياسية والاجتماعية. حاصل على شهادة في الحقوق ودبلوم في القانون الخاص. ساهم في عدة منصات إعلامية وشارك في ندوات دولية مع منظمات المجتمع  المدني وحقوق الإنسان ( تفاصيل السيرة الذاتية)