العالم الروائي عند كونديرا

العالم الروائي عند “ميلان كونديرا”

خالد راكز | باحث ومهتم بالأدب والانتروبولوجيا 

يعد ميلان كونديرا، أحد كبار الروائيين التشيك المعاصرين، صديق المسرحي ورئيس التشيك سابقا فاكلاف هافيل، إنه لا يعتبر نفسه منظرا روائيا فحسب إنه فينومونولوجي بامتياز سليل كافكا و صامويل بيكيت و رابلي وحامل إرث مونتين. فرواياته تعج بالسخرية والضحك من المفارقات كما روايته الأخيرة حفل التفاهة التي يسائل فيها اللامعنى واللادلالة من خلال أبطاله . كما نجد تداخلا بين الأجناس الأدبية والموسيقى والتشكيل كالاحتفاء بالموسيقي بتهوفن والرسام الفرنسي شكال .


يتميز العمل الروائي لميلان كونديرا بتماسك وحدته الداخلية، والمنطق الذي يحكم نمو الحبكة داخل النص الروائي فالحبكة الروائية و الشخصيات والوقائع و وجهات النظر تجسد الوحدة الداخلية للنص الروائي لأنها تعبر عن الرؤية الميتافيزيقية للكاتب، إنها حركات سيمانتيكية تتفاعل داخل النص.
من بين التيمات الأساسية نجد القبعة حاضرة في رواية الضحك والنسيان ، القبعة المضحكة للقس كالفان والقبعة التاريخية لكليمانس في كائن لا تحتمل خفته والقبعة الايروتيكية لسابينا والقبعات الخالدة لغوته وبيتهوفن والقبعة الغريبة لفانسون. فمن رواية إلى أخرى تأخذ القبعة قيمة جديدة غير مألوفة هذا التنويع الفني يشكل إحدى مقومات الأسلوب الفني.
يشرح كونديرا أسلوب التنويع الفني في الفصل السابع من الجزء السادس من كتاب الضحك والنسيان. انه يقارنه بمصطلح التنويع الموسيقي في السيمفونيات (السيمفونية هي ملحمة موسيقية إنها تشبه سفرا عبر اللانهائية العالم الداخلي). هي محاولة للإمساك بالأشياء الصغيرة والذهاب بعيدا، يرى باسكال إن الإنسان يعيش بين سديمين الأول مطلق لانهائي شاسع، والثاني مطلق صغير، سفر التنويعات يقود إلى العالم الداخل نحو منتهيات أخرى داخل المطلق تنويع العلم الداخلي والجواني في هذا السد يم الإنساني.
إنه يستحضر مفهوما جماليا يرتبط بماهية التنويع الفني. فتعدد الأصوات يتعارض مع التركيب الواحد، انه نمو متوازي لصوتين ومجموعة من الأصوات سواء كان صوت شخصية أدبية أو أجناس أدبية متداخلة فيما بينها في رواية المزحة، نجد أربعة أجزاء موزعة تطرح وجهات نظر مختلفة لأربع شخصيات تتميز كل واحدة منها بجنسها المحدد والمميز.
لودفيغ في خطابه التحليلي السياسي وكوستكا في خطابه الإجيلي ذات الطابع الأسطوري، وجاوسلاف في محاولاته الموسيقية، وهيلينا في خطابها الإيديولوجي العاطفي، تعددية الأصوات تنبني على خطابات مستقلة بذاتها؛ خطاب فلسفي تاريخي سياسي تهكمي، إيحاء جنسي ذات طابع أخلاقي شعري، وتنويعات أدبية، بالإحالة لنصوص روائية أخرى تدخل في عملية تناصية، ما يحكم هذا التعالق النصي هي الوحدة الموضوعية،  فتعدد الأصوات هو مضاعفة لوجهات النظر المتعلقة بنفس الموضوع الذي تتم إضاءته من زوايا مختلفة تكشف عن التناقضات والملابسات التي تكتنف هذه الرؤى مثل حوار سابينا وفرانز، الذي يدور حول مجموعة من الكلمات .
إن تعدد الأصوات في أعمال كونديرا يقوم على رؤية ظاهراتية للوجود ، فغنى العالم وتعددية التجارب الإنسانية المعيشة، هي لحمة العمل الروائي عند كونديرا فغالبا ما نجد نفس المشهد أو اللقطة التي تعبر عن مأزق شخصية من الشخصيات تتكرر ( كونديرا يصرح بهذا الاكتشاف الفينومولوجي داخل عمله الروائي من خلال استحضار الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر ماهية الميتافيزيقا أو الطرح الفينومنوجي لادمون هوسرل) .
إننا أمام رؤية فلسفية عميقة للرواية تستدعي تجربة المعيش وقضايا الوجود، التنويع الروائي لكونديرا هو نمط جمالي قريب من المنهج الفينومينولوجي هذا التنويع المخيالي كما هو وارد عند هوسرل كنوع من اكتشاف العالم وماهية الحياة الإنسانية بصيغة أخرى الماهية الأنطولوجية للكائن من خلال تنويعات جمالية.

يمكننا القول إن كونديرا من الروائيين القلائل الذين اختاروا مقاربة الوجود من خلال شعرية تنهل من تجارب المعيش بالعودة إلى الأشياء ذاتها. كما يعبر عن ذلك هوسرل فغاية الرواية هي التعرف على العالم.


فان نكتشف رواية متميزة أو متفردة أي ما يجعلها جديرة بهذه الحظوة هي تلك الرؤية الميتافيزيقية للروائي التي تحاول الإمساك بالتركيب المعقد للعالم والمفارقات التي تعتور الوجود الإنساني الهش، إنها لا تقدم حقيقة واحدة بل حقائق حول نفس الشئ فهي رواية متحررة من اليقينيات وتضعنا في حالة شك دائم، وأسئلة ذات طابع تأملي.
فالفرق بين الفيلسوف والروائي خارج الرواية هي الرؤية التي تحكم كل واحد منهما، فالعالم ينبني على يقينيات، من السياسي إلى حارس العمارة.


في مجال الرواية نحن أمام اللايقين انه عالم الفرضيات، فماهية العمل الروائي تساؤلات وافتراضات فكونديرا ليس ناطقا باسم توجه فلسفي بعينه، والتأملات التي يقدمها في عمله ترتبط برؤية إبداعية أدبية تتأرجح بين الروائي والفلسفي.

فالرواية ليست ثمرة نسق منسجم كجنس أدبي كالمحاولات الفلسفية، إنها ذات ماهية روائية نسبية غامضة وذات طابع تساؤلي وليس تأكيدي جازم. من ثمة فان تعدد الأصوات يجعل الرواية خارج اليقينيات فالطابع التأملي عند لكونديرا يجعله بعض الأحيان محط النقد . فنصه الروائي يتسم بالتجريد ويجعل الحكي مجرد عرض لأفكار ذهنية .
إننا أمام تداخل يتفاعل فيه ألحكي والتأمل الذهني فشخصيات كونديرا الروائية ليست شبيهة بالكائن الحي . إنها كائن متخيل نوع من الأنا التجريبي بصيغة أخرى.، فماهية الشخصية لا علاقة لها باستيتقا المحاكاة لكن استيتيقا المتخيل، تقوم على استدعاء الحلم.
يرى كونديرا بان الرواية هي المكان الذي يتفجر فيه المتخيل كما في الحلم. كونديرا يبحث عن إمكانية تكوين وخلق شخصياته من خلال توظيف كلمة أو وضعية أو استعارة أكثر من وصف واقعي أو نفسي.

هذا الروائي يريد أن يموضع كتابته في إطار نوع من الجمالية الروائية القائمة على العادة السيكولوجية. إنه يلقي بشكل صريح معايير تقليد أدبي بلزاكي، حيث يتم إعطاء الحد الأقصى من المعلومات حول الشخصيات، تجسيدها المادي، طريقة الكلام والتصرف،  البحث في الماضي الذي يستطيع القارئ من خلاله إنتاج محفزات السلوك ،القطع مع هذا التقليد هو قطع مع الرسم البلزاكي للشخصيات مقابل ذلك .


إن كونديرا يركز تلقي العالم من طرف الشخصيات بدل وصفها في فصل كلمات غير مفهومة البحث عن القاعدة الأساسية عند فرانزوسابينا، يتم بتحليل الكثير من الكلمات، المرأة، الأمانة، الخيانة، الموسيقى، الظلمة، النور، المواكب، الجمال، الوطن، المقبرة، القوة .
هذه الكلمات لها دلالة خاصة مختلفة في نسق وجود الأخر، بالطبع هذا النظام لا يدرس بشكل مجرد، انه يتجلى في الحركة والوضعيات .
ماهية الشخصية تتحدد من خلال العلاقة بالعالم وليس من خلال الحالة المدنية التي يرسمها السارد، الصفة الأساسية لشخصيات كونديرا هيمنة الصورة الذهنية على حساب الصورة الحسية ومعيش الشخصيات. هناك خيط ناظم بين التفكير في الشخصيات والموضوع، شخصيات هذا الروائي ليست شخصيات سيكولوجية كما في الرواية الجديدة أو شخصيات واقعية، كما في روايات القرن التاسع عشر، إنها شخصيات تنغرس رؤيتها في الأشياء من خلال نظرتها الوجودية التي تحمل معنى الوجود الإنساني هذا الرابط بين الشخصية والموضوع يقود حسب المبدأ الكونديري إلى تنويعات في الموضوع، بالعودة بعض الأحيان إلى نفس الشخصية في مختلف الروايات،  هذا التكنيك الأسلوبي يختلف عن أسلوب بلزاك الذي يعود إلى نفس الشخصية التي يعرضها من رواية إلى أخرى بالعرض المتسلسل للأعمار في وضعيات وسياقات مختلفة، من اجل اشكلة الشخصية،  في بعض الأحيان يعود كونديرا إلى نفس الشخصية، يقدم صورة مغايرة لها انه نوع من التحوير أكثر عمومية من الشخصية دون التركيز على الطبائع الفيزيقية، انه يجرد الشخصية من شكلها الحقيقي ليضفي عليها طابعا سخريا قد تتشابه داخل نفس العائلة، فالعديد من الشخصيات تحمل اسما وتاريخا وذاكرة خاصة، رغم أنهم يمتلكون مواصفات مشتركة، ففي الحياة اليومية لا يمكن أن تستوعب الصورة المماثلة خارج الوجود الإنساني، فلكل شخصية تجلياتها في الجزء أو المظهر العام بطريقة ثابتة أو عابرة رئيسية أو عرضية .

Print Friendly, PDF & Email
Author profile

صحفي مهني وناشط حقوقي، متخصص في القضايا السياسية والاجتماعية. حاصل على شهادة في الحقوق ودبلوم في القانون الخاص. ساهم في عدة منصات إعلامية وشارك في ندوات دولية مع منظمات المجتمع  المدني وحقوق الإنسان ( تفاصيل السيرة الذاتية)