تربية دينية ام اسلامية

حلقات تربوية: الحلقة التاسعة “تربية دينية أم إسلامية؟ ” لا يزال التعليم الدِّيني حاضرا بقوة من الكتاتيب القرآنية وصولا إلى القيروان ودار الحديث الحسنية…

العلوي رشيد | مؤطر تربوي 

بعد الشروع في مراجعة مقررات التربية الاسلامية، أثير سجال حاد حول العنوان الذي يمكن أن يعوض “التربية الاسلامية”، ومع أن التربية الدينية – التي اقترحت عنوانا بديلا للتربية الاسلامية – ليس مجرد تسمية أو لفظ بل له من المعاني الكثير،

بحيث يختزل في نظرنا قيم التسامح والانفتاح والاعتراف بالغير وبحق الآخر المختلف في إثبات وجوده.

التربية الدينية تسمية تجسد روح التسامح والانفتاح وتضع حق الغير في التربية الدينية الخاصة به، أما التربية الاسلامية فهي تربية تلزم الجميع من منطلق أن جميع المغاربة مسلمون بالقوة، في الوقت الذي وقعت فيه الدولة اتفاقات وعهود دولية تنص على حرية المعتقد والضمير.

يفترض في التربية الدينية الإعلان عن حق المسلم وغير المسلم في تربية دينية يختارها بمحض إرادته أو تختارها أسرته، وكيفما كانت الأرقام التي تعلن عنها الصحافة حول الأقليات الدينية في المغرب: المسيحية، اليهودية… فإن هذه التسمية تعطي الحق لكل الأقليات في اعتماد مقرراتها الخاصة أو اتباع طرقها الخاصة في التربية على الدين: لكن هل يمكن فعلا أن نضع برامج تعليمية خاصة بالتربيَّة الدينيَّة؟

أصبح وضع البرامج التعليمية في المغرب بعد تحرير الكتاب المدرسي تجارة مربحة أكثر من ذي قبل، في حين أن مسألة التأليف المدرسي يمكن أن تعهد لهيئة وطنية مستقلة تضم بالأساس الأساتذة الممارسون لمهنة التدريس ويشهد لهم بكفاءتهم العلمية والمهنية وبمجهوداتهم في البحث العلمي الرصين بدل هيئات معينة ومنتقاة بحكم القرابة والولاء وما إلى ذلك.

يحيلنا السؤال الأخير – الذي يبدو ظاهرياً على أنه سياسي وإيديولوجي بالدرجة الاولى – على سؤال أعم وراهِني: ما موقع السلطات الحكوميَّة والنظام السياسي من تدريس مادة الدِّين؟ أو على الأقل درس الدين؟

الحكم المنطقي والمعقول يقول: يجب أن يبقى التعليم عموميّاً- وليس تعليم الدين وحده – ومستقلا ومحايداً عن أيَّة وصاية كيفما كانت. يجب أن يبقى محايداً عن النظام السياسي وعن الحكومة والمجتمع المدني؟ كيف ذلك؟

يجب خوصصة التعليم الديني وجعله شأنا خاصا بدل أن يكون عموميا، ونقصد بالتمييز هنا بين الخاص والعام، إعطاء الحق للجميع في اختيار تربية أبنائه الدينية، كما هو معمول به في بعض البلدان الديمقراطية، إذا كان إرادة المغاربة هي التطلع إلى نظام ديمقراطي لا يقوم على الجمع بين السلطة الدينية والسلطة السياسية. وبكل تأكيد سيكون هذا الإقرار ثورة حداثية غير مسبوقة في العالم العربي.

يجب أن يكون التعليم الديني مستقلا بما تحمله الكلمة من معنى وهنا نطرح مشكلتين رئيستين:

  • مشكلة المشروعية الدينية لنظام الحكم والتي بدونها لن يستطيع ضمان عملية إعادة إنتاج الوضع الديني والنخب الدينية التي تلعب دورا هاما في منح الشرعية لإمارة المؤمنين
  • مشكلة شرعية الأحزاب الدينية التي تتاجر بالدين لأهداف سياسية محضة، في أفق فرض منظور معيّن للمجتمع أو رؤية محددة للعالم.

إذا كان الغرض السامي للدِّين هو ضمان تنشئة اجتماعيَّة وتربية أخلاقيَّة لكل المواطنين من أجل الصلاح والطمأنينة والشعور بالسعادة، فإن ذلك لن يتم دوماً بكيفية واحدة: إقرارها في برامج التعليم،فكيف يمكن إذن لتربية دينية موجهة للمواطن في تكوينه وأخلاقه وسعادته أن تكون مادة للتقويم والتنقيط ؟ أداة للنجاح أو السقوط؟

مبدأ الاستقلالية أوالحيادية الذي شرعنا في بعض تفاصيله أعلاه يتطلب حزما عقلانيا وحداثيا. لهذا لا نرى من سبيل غير الحوار لحسم الخيارات المجتمعيَّة الكبرى، أما أن تفرض الحكومة أو النظام تصورهما الخاص على الجميع فذلك غير معقول بتاتا، كما لا يسمح للأحزاب وجمعيات المجتمع المدني بالضغط وفرض رؤاها على الجميع:النقاش العمومي المنفتح والمنظم مؤسساتيا وحده كفيل بالجواب على المشكلات الحقيقية التي تعترض سيرورة التقدم المجتمعي.

يحتكر هذا النقاش غير العمومي تصوران: تصور محافظ وآخر علماني، وما يقترحه كلاهما لن يوصلنا إلى أي حل: حيث كل طرف يسعى إلى إقصاء الآخر، مما يدفع النظام والحكومة إلى فرض آرائها وتوجهاتها وسياستها.

المدرسة العمومية هي مدرسة للجميع، لا ينبغي أن تضع التربية الدينية ضمن برامجها ومناهجها، لأنها مدرسة بشرية لتكوين المواطن والناشئة على قدر ما تزخر به الحضارات البشرية والمعرفة البشرية من خبرات وعلوم. لذا فإن البرامج الدينية مكانها غير المدرسة العمومية وإنما مدارس خاصة يمكن للمواطن أن يسجل أبنائه وفق إرادته الخاصة في تلك المدارس ليتلقى ما يكفي من المبادئ ليصبح صالحا وسعيدا ومطمئنا لوضعه الخاص. وفي سبيل ذلك صار وجود نظام حديث وعلماني مطلبا عقلانيا ومعاصرا لكل المغاربة. وما يعنيه ذلك من إقرار لفصل الدين عن الدولة، فليس من المقبول أن تسهر الدولة على تمويل وإدارة التعليم الديني الذي هو من اختصاص المؤسسات والهيئات الدينية الفاعلة في المجتمع.

لدينا وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية التي تعتبر من أغنى الوزارات والتي يمكنها أن تبني مدارس دينية خاصة بالمسلمين لتلقين التربية الدينية، ويمكن أن تمنح لنفس الجماعات الدينية المختلفة: اليهودية والمسيحية نفس الامتيازات، كما لجماعات مسلمة غير سنية (نقصد الشيعة) لإبعاد التربية الدينية عن المدرسة العمومية التي من المفروض أن تكون مدرسة للعلوم الوضعية: الفنون، الهندسة، الآداب، المنطق، الفلسفة، العلوم الحقة، المهن…

أبان النقاش الذي أثارته الصحافة خلال فترة الانكباب على مراجعة مناهج ومقررات التربية الإسلامية، عن تخلف واضح اتجاه عنوان التربية الدينية دون مناقشة أبعاده الاستراتيجية مجتمعيا وكونيا. كما أبان عن عجرفة تجار الدين الذي سارعوا إلى فرض رؤيتهم الأحادية والمجانبة لمنطق التطور البشري، وقد كانت النتيجة واضحة وجلية جدا من خلال الهجوم على الفلسفة والعلوم الإنسانية والعلوم الحقة عامة.

لن يروق هذا الأمر جسمين: النظام السياسي الذي يضمن شرعية استمراره من المشروعية الدينية، والأحزاب المتاجرة بالدين التي تحقق مشروعيتها من ادعائها تمثيلها لفئة دينية معينة. 

تنطلق معظم إصلاحات التعليم من اعتبار الدِّين الإسلامي دين الجميع، ومن ثوابت الأمة التي لا يمكن التراجع عنها، لأنها أساس الهوية الجمعية، ولذلك فلا يزال التعليم الدِّيني حاضرا بقوة في مختلف مستويات التنشئة الاجتماعيَّة من الكتاتيب القرآنية وصولا إلى القيروان ودار الحديث الحسنية…

يخضع معظم إن لم نقل جل المتمدرسين إلى تربية دينيَّة عتيقة وعنيفة في خطابها ومحتوياتها العقدية، فبرامج التربية الإسلاميَّة عقيمة ولا تراعي أي تجديد يذكر بل وظفت لتفريخ جيوش من حركات الإسلام السيَّاسي في فترات سابقة، لهذا يحضر الدِّين بشكل قوي في البرامج المدرسية الحكوميَّة وغير الحكوميَّة، ولا يزال التعليم الدِّيني عتيقا ولم يتعرض لأي تحديث يذكر كما هو حال تحديث كمال أتاتورك الذي يشهد له التاريخ على ذلك. كما لا نجد في الدستور المغربي لا في النسخة الأخيرة (2011) ولا في النسخ السابقة ما يشير إلى الحريَّة الدينيَّة لأن الملك هو أمير للمؤمنين وفق ما ينص عليه الفصل 41 وهو الذي يضمن فقط حريَّة ممارسة الشعائر الدينيَّة حيث نقرأ في هذا الفصل ما يلي:

الملك، أمير المؤمنين وحامي حِمى المِلّة والدِّين، والضامن لحريَّة ممارسة الشؤون الدينيَّة.

يرأس الملك، أمير المؤمنين، المجلس العلمي الأعلى، الذي يتولى دراسة القضايا التي يعرضها عليه.

ويعتبر المجلس الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتاوى التي تعتمد رسميا، في شأن المسائل المحالة إليه، استنادا إلى مبادئ وأحكام الدِّين الإسلامي الحنيف، ومقاصده السمحة. وتحدد اختصاصات المجلس وتأليفه وكيفيات سيره بظهير.

يمارس الملك الصلاحيات الدينيَّة المتعلقة بإمارة المؤمنين، والمخوّلة له حصريا، بمقتضى هذا الفصل، بواسطة ظهائر.

ولا بد أن نسجل هنا أن إمارة المؤمنين هي التي تضمن كل ما يتعلق بالشؤون الدينيَّة وتظل مختلف الصلاحيات والقرارات خاضعة لأوامره ونواهيه بما فيها إصدار الظهائر، وتلك مسألة أخرى بحيث إن الظهائر لا تسير دوما في الاتجاه الذي ترغب فيه مُكوّنات المجتمع أو البعض منها. وعلى هذا الأساس فإن العديد من الأمور التي اعتبرتها الحركة الحقوقية والسيَّاسيَّة بالبلاد مكتسبات عادة ما يتم التنازل عنها في قوانين أخرى ملحقة أو متفرعة عن الدستور من قبيل القانون الجنائي الذي يحد من العديد من الحقوق المضمون في الدستور بما فيه حريَّة المعتقد.

لا يمكن فصل مطلب الحريَّة الدينيَّة عن مطلب حريَّة المعتقد، لذا نشدد على أن حريَّة ممارسة الشؤون الدينيَّة لا علاقة له لا بالحريَّة الدينيَّة ولا بحريَّة المعتقد التي أقرتها المواثيق الدوليَّة لحقوق الإنسان. هكذا فالحريَّة الدينيَّة في نظرنا كمطلب تقع في صلب المس بالشرعيَّة الدينيَّة للملك (إمارة المؤمنين)، لأنها ستسمح للناس باختيار طرق اندماجهم في النِّظام الاجتماعي وبالأفكار التي يروناها أساسا لاعتقاداتهم بل ولتعبّداتهم. وكلما أحس النِّظام السيَّاسي بخطورة المس بالأساس الدِّيني للمشروعية السيَّاسيَّة كلما اتجه نحو قمع تلك التحركات.

ورغم أن بعض القوانين منعت تأسيس الأحزاب على أساس ديني أو عقدي فإن أغلب الأحزاب السيَّاسيَّة عندنا تتبنى المرجعية الإسلاميَّة، وتشكل أحزاب الإسلام السيَّاسي التي ولجت الحقل السيَّاسي حالات فاقعة. بحيث يشكل الانتماء إلى الإسلام السيَّاسي عائقا أكبر أمام العملية الدِيمقراطيَّة، لأنها أحزاب تستغل موقعها الوظيفي وأدوارها الاجتماعيَّة في العمل الخيري لخدمة أهدافها السيَّاسيَّة، وباستثناء المغرب الذي منع استعمال رموز دينيَّة في الحملات الانتخابية وقد تم تبني ظهير (2014) يمنع من خلاله الفقهاء والأئمة من المشاركة السيَّاسيَّة أو المزاوجة بين الصفة المهنية والصفة السيَّاسيَّة، رغم أن هذه العملية قد تشوبها خروقات عدة. إن مشاركة الأحزاب الإسلاميَّة في الحكومة لا يسمح بفصل الخطاب الدعوي عن الخطاب السيَّاسي، والعديد منها يطرح في برامجه وتوجهاته الإيديولوجيَّة مسألة إعادة الاعتبار للإسلام، وإعادة الاعتبار لدور الدين في المجال السياسي العمومي، وهو ما يسمى عادة بأخونة الدولة والمجتمع. غير أن البرامج السيَّاسيَّة التي تدافع عنها هذه الأحزاب تتعارض تماما مع ايديولوجيتها الدينيَّة والعقدية، لأنها برامج ليبراليَّة متوحشة تطبق وتنفذ مجموع المخططات التي يقترحها البنك الدولي، في إجهاز تام على مكتسبات الشعوب.

هكذا يبدوا أن استبدال التربية الإسلامية بالتربية الدينية هو عين الصواب ليس في المقررات المدرسية وإنما في مدارس دينية خصوصية منفصلة عن التعليم العمومي تقدم خدماتها الدينية في مجال التربية والقيم.

 

محمد المسير {أقلالوش}

رئيس التحرير - كاتب رأي

صحفي مهني وناشط حقوقي، متخصص في القضايا السياسية والاجتماعية. حاصل على شهادة في الحقوق ودبلوم في القانون الخاص. ساهم في عدة منصات إعلامية وشارك في ندوات دولية مع منظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان. التفاصيل في الشفحة الشخصية :

⌈ https://bit.ly/3UntScc ⌉